تؤسس الصين لحقبة جديدة في عالم التجسس تعتمد بشكل رئيسي على المناطيد لما لها من ميزات، تفوق كثيراً التقنيات الحديثة المعقدة والمكلفة، وشكّل المنطاد الصيني الذي رصد فوق كارولينا الجنوبية في الولايات المتحدة في 4 فبراير الجاري أزمة جديدة أضفت مزيداً من التوتر على العلاقات بين بكين وواشنطن، وسلطت الضوء على تلك التقنية المستحدثة.
المناطيد قليلة التكلفة، ولديها الإمكانية والقدرة على الاستمرار في المراقبة لفترة طويلة
وفور إسقاط الجيش الأمريكي للمنطاد الصيني فوق ساحل كارولينا الجنوبية في 5 فبراير (شباط)، ومصادرة حطامه لبحثه مخبرياً، والتأكد من طبيعته، وكشف حقيقته، اتهم البيت الأبيض الصين بإرسال أجسام جديدة إلى سماء أمريكا لأغراض التجسس، ورفضت بكين تلك الاتهامات، مشددة على أن المنطاد مخصص لأغراض بحثية ومدنية.
وبعيداً عن الجدل السياسي الذي أثاره المنطاد، سلطت صحف عدة الضوء على ماهية تلك التقنية، المعروقة بقدمها، وعن الأسباب التي تدفع دولة متطورة كالصين لاعتماد هذه التكنولوجيا في عالم يشتد فيه التنافس على تطوير وسائل المراقبة والتجسس ورفع قدراتها إلى أعلى مستوى، دون الاكتراث بتكالفيها الباهظة.
هذا تكوينها
بعد إسقاط المنطاد الصيني في كارولينا الجنوبية، كشف الجيش الأمريكي عن معلومات جديدة، حول طبيعة ذلك الجسم، وعن ما يحيويه من أجهزة مختلفة، واتضح أن المنطاد الصيني يبلغ طوله 60 متراً، وكان يحمل في داخله ألواحاً شمسية كبيرة بإمكانها تشغيل أجهزة جمع المعلومات الاستخباراتية، وهوائيات قادرة على التقاط وتحديد موقع الاتصالات.
وشمل المنطاد الصيني أيضاً على أنظمة متطورة لتوليد الطاقة، والتي بمقدورها أن تسهل نقل كم هائل من البيانات إلى الأقمار الصناعية الصينية.
ويقول الأستاذ المساعد في جامعة “جون هوبكينز” غريغوري فالكو، “هذا النوع من الهوائيات مصمم لعمليات المراقبة”، ما ينفي حتماً زعم الصين بأن المنطاد مخصص لأغراض مدنية، وفقاً لما ذكره موقع “بي بي سي”.
ويكشف حطام البالون عن أجزاء أخرى، على رأسها أجهزة الكترونية مخصصة للمراقبة والتوجيه، غير معمول بها في الجيش الأمريكي.
يتوقع الخبراء أيضاً، أن تكون الصين تسير أساطيلها من المناطيد بواسطة الذكاء الصناعي، فمثلاً بمقدور أجهزة التحكم الصينية في أي قاعدة كانت بداخل الصين أو خارجها، تغيير ارتفاع أي منطاد يتبع لها، في أي سماء، دون عناء أو كلفة، حتى يصل للارتفاع المطلوب ويعثر على الرياح القادرة على تسييره في الاتجاه المحدد، وفي السابق كانت تلك الأجهزة بسيطة، وغير عملية، إذ كانت توجه عبر كابل يربطها بمركزها في الأرض، إلى أن تصل إلى ارتفاع عال يمكنها من الاعتماد على الرياح.
ويعتقد الخبراء، أن المنطاد الصيني قد يكون رصد اتصالات عبر الهاتف النقال، والراديو، في المنطقة العسكرية الأمريكية الحساسة التي حلق فوقها.
مزايا كثيرة
تملك المناطيد مزايا كثيرة، تجعل الصين تتبناها كخيار عملي في برامج التجسس، فهي وبحسب الديموقراطي البارز في لجنة المخابرات بمجلس النواب الأمريكي جيم هيمز، لا تكلف مليار دولار، كالأقمار الصناعية. كذلك لديها الإمكانية والقدرة على الاستمرار في المراقبة لفترة طويلة، وأيضاً، يشكل تحليقها لمسافات قريبة من الأرض ميزة تمكن ممتلكيها من جمع معلومات دقيقة، وأثمن من تلك التي ترصدها الأقمار الصناعية المتطورة.
من جهته، يقول الزميل في مركز الأمن الأمريكي الجديد في واشنطن جاكوب ستوكس، أن المناطيد وعدا عن دورها في المراقبة، قد تستخدم كوسيلة اتصالات احتياطية للمراقبة في حال تدمير الأقمار الصناعية أو تعميتها عن طريق التدابير المضادة. كذا، قد يتحول البالون فجأة لمستودع يحمل أسراباً من الطائرات المسيرة، يبدأ إطلاقها في أراضي الأعداء والخصوم. أيضاً، وفي حالات معينة، يمكن استخدامها كمنصة عالية الارتفاع لإطلاق الصواريخ، بحسب ستوكس.
يقول مسؤولون أمريكيون أيضاً، إن الصين طورت برنامج “المناطيد” كمكمل لأسطولها من أقمار الاستطلاع الصناعية، في مهمة لجمع المعلومات في جميع أنحاء العالم. ويؤكد المسؤولون، يمكن أن تطول البالونات على موقع ما أكثر من القمر الصناعي. وبينما تركز أقمار الاستطلاع غالباً على الصور ، يبدو أن المناطيد تركز في الغالب على جمع الاتصالات.
مشكلة واحدة
تبقى الرياح، مشكلة البالونات الأولى، بما فيها الصينية المتطورة، إذ تدفعها أحياناً في اتجاهات لا يمكن التنبؤ بها، لينتهي بها المطاف في أرض الخصم، كما حدث مع المنطاد الصيني الذي شق طريقه إلى سماء الولايات المتحدة دون قصد، بحسب التأكيدات الصينية، وفقاً لصحيفة “الغارديان”.
اهتمام خاص
أصرت الصين حتى الآن على أن مناطيدها المرتفعة لأغراض الأرصاد الجوية، لكن صحيفة “جيش التحرير الشعبية” كشفت في مقالات مختلفة، اهتمام الصين باستخدام المناطيد للتطبيقات العسكرية.
وذكر في مقال نشر في 2018 بالصحيفة: فإنه “مع التطور السريع للتكنولوجيا الحديثة، لم تعد مساحة مواجهة المعلومات مقتصرة على الأرض والبحر والارتفاعات المنخفضة. وأصبح الفضاء القريب أيضاً ساحة معركة جديدة في الحرب الحديثة وجزءاً مهماً من نظام الأمن القومي”.
وذكرت المقالة، أن مجموعة من “مركبات الطيران في الفضاء القريب” ستلعب دوراً حيوياً في العمليات القتالية المشتركة المستقبلية التي تدمج الفضاء الخارجي والغلاف الجوي للأرض.
وبحسب “سي أن أن”، فقد حث الزعيم الصيني شي جين بينغ القوات الجوية لجيش التحرير الشعبي على “تسريع التكامل الجوي والفضائي وتعزيز قدراتها الهجومية والدفاعية” في وقت مبكر من عام 2014، وقد حدد الخبراء العسكريون “الفضاء القريب” كحلقة وصل حاسمة في هذا التكامل.
أسلوب للمناورة
بحسب مستشار الأمن القومي الأمريكي، جيك سوليفان ، فإنه من خلال إعادة توظيف قدرات الاستخبارات والتتبع ، أصبحت الولايات المتحدة الآن قادرة على رصد المناطيد المرتفعة التي فاتتها سابقاً. لكن بقية العالم لن يكون قادراً على مضاهاة تلك القدرات، لذلك لا يزال من المرجح أن يكون للمناطيد الصينية مجال واسع للمناورة. والمراقبة ليست سوى واحدة من عدة وظائف عسكرية محتملة.