
شهدت الساعات الأولى من فجر أمس تصعيدًا جديدًا وخطيرًا في حدة التوتر العسكري بين إيران وإسرائيل، في مشهد يُعيد إلى الواجهة مخاوف انفجار حرب ممتدة أو صراع أوسع في منطقة الشرق الأوسط، في ظل استمرار هذا التصعيد المتبادل بين الجانبين الإيراني والإسرائيلي. وفي طيات هذا التصعيد، يبرز الموقف الأمريكي بوصفه عاملًا حاسمًا في موازين الردع والتهدئة بين الجانبين على السواء، وهو الأمر الذي يُبين مدى أهمية القراءة الدقيقة لموقف واشنطن وخياراتها الممكنة في التعامل مع التطورات المتلاحقة لذلك التصعيد، خاصة في ظل التحديات الدولية والإقليمية الراهنة واعتبارات السياسة الداخلية الأمريكية.
في هذا السياق، يُثار العديد من التساؤلات؛ مثل: ما النتائج التي تتضمنها القراءة المبدئية للموقف الأمريكي إزاء الحرب المشتعلة حاليًا بين إيران وإسرائيل؟ وما الرسائل التي تحملها تصريحات الرئيس الأمريكي؛ دونالد ترامب بشأن هذه الحرب؟ وكيف يُمكن أن يتطور الموقف الأمريكي مستقبلًا إزاء تلك الحرب؟
رسائل عديدة
لقد أدلى الرئيس الأمريكي؛ دونالد ترامب، بالعديد من التصريحات حول التصعيد العسكري الراهن بين إيران وإسرائيل، وتشير القراءة المبدئية لهذه التصريحات إلى أنها تحمل رسائل عديدة يُمكن توضيحها فيما يلي:
(*) تأييد ومباركة ترامب للضربات الإسرائيلية على الجمهورية الإسلامية الإيرانية: فقد وصف ترامب الهجوم الإسرائيلي الذي نُفذ فجر أمس الجمعة، على إيران بـ”هجوم ممتاز” أو “هجوم ناجح للغاية”، وأكد أن الولايات المتحدة كانت على علم مسبق بالعملية. وحذّر ترامب بأن “هناك المزيد قادم”، مشيرًا إلى أن الهجمات المقبلة قد تكون “أكثر وحشية” من السابقة.
(*) ممارسة المزيد من الضغط الأمريكي على إيران بعد تعرضها للهجوم الإسرائيلي: شدد ترامب على أن إيران حصلت على مهلة 60 يومًا للتوصل إلى اتفاق نووي، هذه المهلة انقضت الخميس الماضي (بدأت منتصف أبريل وانتهت 13 يونيو 2025). وهو يرى أن إيران فشلت في التوصل إلى اتفاق، وبالتالي اُستخدمت القوة معها. وبعث برسالة إلى طهران: “افعلوا Deal، قبل فوات الأوان”، محذرًا من دمار أكبر في حال عدم الاستجابة.
(*) استمرار الدعم الأمريكي لإسرائيل وحمايتها من أي ضربات إيرانية مضادة: فقد أكد ترامب أنه لن يقلق من نزاع إقليمي بسبب الحرب الإسرائيلية الإيرانية الراهنة، وكان واضحًا في دعم إسرائيل، بالرغم من توتر المنطقة. ومع أن الولايات المتحدة لم تشارك مباشرة في العمليات الإسرائيلية ضد إيران، أضاف ترامب أن واشنطن ستساعد إسرائيل في الدفاع عبر نظام “القبة الحديدية” لاعتراض الصواريخ الإيرانية.
اتجاهات الموقف الأمريكي
يمكن تبين الموقف الأمريكي تجاه الحرب المتصاعدة بين إيران وإسرائيل منذ الجمعة الموافق 13 يونيو 2025 من خلال رصد الأبعاد أو الجوانب التالية:
(*) إعلان الولايات المتحدة الأمريكية عن استمرار الدعم الدفاعي لإسرائيل: فقد أعلن البيت الأبيض عدم المشاركة المباشرة في الضربات الإسرائيلية على إيران، لكنه شدد على استعداد واشنطن لدعم إسرائيل دفاعيًا، وخصوصًا عبر أنظمة دفاعية لمواجهة الصواريخ الإيرانية. فقد أوضح بول ماركو روبيو، وزير الخارجية الأمريكي، أن إسرائيل تصرفت بشكل مستقل، محذرًا إيران من استهداف المصالح الأمريكية في المنطقة.
(*) انقسام داخلي أمريكي بشأن المشاركة في الحرب بين إيران وإسرائيل: يوجد في واشنطن تياران متعارضان؛ أحدهما يسود في الحزب الجمهوري الذي يدعو لدعم إسرائيل بشكل كامل وفرض ضغوط صارمة على إيران، بما في ذلك إجراءات أمنية ودبلوماسية ومعارضة إعادة الانضمام للاتفاق النووي. بينما يمثل التيار الآخر، بعض الأصوات داخل الإدارة الأمريكية، مثل نائب الرئيس جيه. دي فينس ومحللين محافظين جدد، يحذرون من الانزلاق في الصراع بين إيران وإسرائيل بشكل مباشر، وهو الأمر الذي قد يُجبر أمريكا على المشاركة بالكامل في هذا الصراع، أي أن التدخل العسكري الأمريكي المباشر يلقى تحفظًا من بعض صناع القرار تجاه امتداد أمني خارج السيطرة.
(*) الدعوة الأمريكية لاستئناف الجهود الدبلوماسية على الرغم من الضربات العسكرية المتبادلة بين إيران وإسرائيل: على الرغم من تعليق المحادثات النووية في عُمان بين الولايات المتحدة الأمريكية بعد الهجوم الإسرائيلي أمس على إيران، مما يغلق الباب أمام العودة للمفاوضات في المدى القريب، إلا أن ترامب هدد إيران بضربات “أكثر وحشية” إذا لم تعد لطاولة التفاوض.
أوراق الضغط الأمريكية
تمتلك الولايات المتحدة مجموعة كبيرة ومتنوعة من أوراق الضغط التي تمكنها من التأثير الحاسم في التصعيد بين إيران وإسرائيل. تتوزع هذه الأوراق على محاور عسكرية، واقتصادية، ودبلوماسية، وتحالفات إقليمية، وتمنح واشنطن قدرة عالية على توجيه مسار الأزمة أو احتوائها.
(*) أوراق الضغط العسكرية: تتمثل في الوجود العسكري المكثف في الشرق الأوسط، فلدى الولايات المتحدة قواعد في قطر (العديد)، الكويت، البحرين، الإمارات، والعراق. فضلًا عن أساطيل بحرية في الخليج العربي والبحر الأحمر (الأسطول الخامس). هذا بالإضافة إلى ما يتوفر للولايات المتحدة من قوات خاصة وأقمار صناعية وأسلحة متقدمة قادرة على ضرب أهداف دقيقة داخل إيران. وقد تستخدم الولايات المتحدة هذه الأوراق في الدعم العسكري الكامل لإسرائيل عبر تزويدها بأنظمة دفاع متطورة (مثل القبة الحديدية و”آرو 3″)، وتوفير دعم استخباراتي مباشر عبر الأقمار الصناعية والطائرات المسيرة، فضلًا عن التنسيق الميداني المباشر بين البنتاجون والجيش الإسرائيلي، فتلك الأوراق العسكرية الأمريكية تضغط على إيران للحد من تحركاتها، وتمنح إسرائيل حرية مناورة أكبر.
(*) أوراق الضغط الاقتصادية: تتعد هذه الأوراق لتشمل العقوبات الاقتصادية الشديدة على إيران، منع تصدير النفط الإيراني (عبر عقوبات على المشترين)، تجميد الأصول الإيرانية في الخارج (مثل الأموال المجمدة في كوريا الجنوبية والعراق)، معاقبة البنوك وشركات الشحن والطيران المرتبطة بالحرس الثوري. هذا فضلًا عن التحكم الأمريكي في النظام المالي العالمي(SWIFT)، وهو ما يؤدي لعزل اقتصادي شديد لإيران، والضغط على الدول الأخرى لوقف التعامل التجاري مع طهران. فمن شأن استخدام واشنطن لهذه الأدوات أو الأوراق أن يُخنق الاقتصاد الإيراني ويُضعف قدرته على تمويل التصعيد.
(*) أوراق الضغط الدبلوماسية والتحالفات: تشمل هذه الأوراق التأثير في مجلس الأمن والأمم المتحدة؛ لتعطيل أي إدانة دولية لإسرائيل باستخدام الفيتو. هذا بالإضافة إلى توجيه الخطاب الدولي نحو مسؤولية إيران في التصعيد الراهن، والتنسيق مع الاتحاد الأوروبي، اليابان، وكوريا الجنوبية لتضييق الخناق الدبلوماسي والاقتصادي على طهران، والضغط على الدول الأخرى لمنع أي دعم سياسي أو إعلامي لطهران.
(*) أوراق الحرب الإلكترونية والمعلوماتية: تمتلك الولايات المتحدة قدرة هائلة على تنفيذ هجمات سيبرانية؛ تستهدف البنية التحتية الإيرانية، كما في الهجوم على منشأة “نطنز”، وجمع معلومات دقيقة عبر طائرات تجسس وأقمار صناعية، فهذه الأوراق تمنح الولايات المتحدة ميزة استخباراتية وضغطًا نفسيًا على القيادة الإيرانية.
خلاصة القول
إن الولايات المتحدة تمتلك أوراق ضغط متكاملة، عسكرية واقتصادية ودبلوماسية، تجعلها اللاعب الأقوى في التصعيد الراهن بين إيران وإسرائيل، وتستطيع استخدام هذه الأوراق بطريقة انتقائية لتوجيه الأزمة نحو التهدئة أو للتصعيد المدروس دون انزلاق إلى حرب مفتوحة.
سيناريوهات مُحتملة
في حال استمرار التصعيد بين إيران وإسرائيل، فإن الموقف الأمريكي قد يتطور وفق توازن دقيق بين ثلاثة أهداف: منع توسع الحرب، حماية إسرائيل، وضبط نفوذ إيران. وفي ضوء ذلك يمكن رصد السيناريوهات التالية:
(*) السيناريو الأول: (المزيد من تعزيز الوجود العسكري الأمريكي في المنطقة):
يفترض هذا السيناريو اتجاه صانع القرار الأمريكي إلى زيادة الردع الأمريكي في مواجهة إيران دون الانخراط في مواجهة مباشرة. ويمكن تحقيق هذا السيناريو عبر نشر مزيد من القوات البحرية والجوية في الخليج والبحر الأحمر وشرق المتوسط، هذا فضلًا عن توفير دعم مباشر لإسرائيل بمنظومات دفاعية (مثل ثاد وباتريوت) ومعلومات استخباراتية، بالإضافة إلى رفع حالة التأهب في القواعد الأمريكية (قطر، البحرين، الكويت).
(*) السيناريو الثاني: (تكثيف الجهود الدبلوماسية لاحتواء التصعيد المتواصل بين إيران وإسرائيل):
يفترض هذا السيناريو اهتمام صانع القرار الأمريكي بإظهار واشنطن بمظهر الوسيط القوي، دون التخلي عن إسرائيل؛ لذلك قد تكثف أمريكا جهودها الدبلوماسية لإنهاء الحرب المشتعلة حاليًا بين إيران وإسرائيل عبر اتصالات عاجلة مع بعض القوى العالمية (مثل روسيا)، والدول الكبرى في المنطقة (مثل مصر، السعودية، الإمارات، تركيا) لخفض التوتر، فمن شأن هذه الجهود محاولة دفع الطرفين نحو التهدئة المؤقتة عبر الوسطاء الدوليين أو الإقليميين (مثل قطر أو سلطنة عمان).
(*) السيناريو الثالث: (استمرار فرض العقوبات على إيران):
يفترض هذا السيناريو اتجاه صانع القرار الأمريكي إلى المزيد من الضغط على إيران اقتصاديًا دون التصعيد العسكري المباشر معها. وفقًا لذلك، فقد تشهد الفترة المقبلة فرض الولايات المتحدة عقوبات إضافية على الحرس الثوري، وصادرات النفط الإيراني، والشركات المرتبطة بالمسيرات أو الصواريخ.
(*) السيناريو الرابع: (التدخل الأمريكي المباشر إلى جانب إسرائيل في حربها ضد إيران):
يستند هذا الافتراض إلى التصريحات الإيرانية اليوم عن إمكانية استهداف القواعد العسكرية في المنطقة؛ لأن الهجوم الإسرائيلي على المواقع الإيرانية لم يكن ليتم دون ضوء أخضر أمريكي وبدعم أمريكي مباشر. ويستند كذلك إلى التحذير الأمريكي الصريح من أن استهداف القوات الأمريكية أو قواعدها سيؤدي إلى رد عسكري مباشر. وبالتالي، إمكانية قيام الولايات المتحدة بضرب مواقع إيرانية (محددة) في حال تجاوز إيران الخطوط الحمراء فقط، لأن الولايات المتحدة لا ترغب في خوض حرب جديدة في الشرق الأوسط، خصوصًا مع انشغالها في جبهات أخرى مثل الأزمة الروسية الأوكرانية، ومواجهة النفوذ الصيني في آسيا.
وفي النهاية، يُمكن القول إنه مع اشتعال الحرب بين إيران وإسرائيل في الوقت الراهن، يبرز الدور الحاسم للولايات المتحدة كلاعب رئيسي في إدارة الأزمة المتفاقمة؛ بسبب هذه الحرب على الصعيدين الإقليمي والدولي. فالموقف الأمريكي، الذي يجمع بين الدعم العسكري والسياسي لإسرائيل والضغط الاقتصادي والدبلوماسي على إيران، يعكس استراتيجية معقدة تسعى إلى تحقيق التوازن بين الردع والاحتواء، مع تجنب انزلاق الصراع إلى مواجهة شاملة.
ويساعد في تحقيق مثل هذا التوازن، ما يتوفر للولايات المتحدة من أوراق الضغط العسكرية والاقتصادية والدبلوماسية التي تؤمن لها تفوقًا استراتيجيًا في المنطقة، ويتأكد ذلك في ضوء تصريحات شخصيات بارزة مثل دونالد ترامب، التي تضيف أبعادًا إضافية لهذا المشهد، حيث تتقاطع دعوات التشدد مع التحذير من مخاطر التصعيد المفرط؛ لذلك، تبقى سياسة واشنطن تجاه الحرب الإسرائيلية الإيرانية مرتبطة بحسابات دقيقة تجمع بين حماية مصالحها وحلفائها في المنطقة، والسعي إلى استقرار إقليمي نسبي، مع مراقبة دقيقة لتطورات الأيام المقبلة التي قد تحدد تطورات ومآلات تلك الحرب والتي تشير المؤشرات الراهنة إلى احتمال استمرار عملياتها خلال الفترة القادمة.