
في 28 يناير الماضي، ضربت طائرات دون طيار مجهولة الهوية مصنعاً عسكرياً في مدينة أصفهان الإيرانية. ويأتي هذا الهجوم بعد قرار إيران تزويد روسيا بطائرات بدون طيار محليَّة الصنع لمواصلة حربها في أوكرانيا.
وأشار مسؤولون إيرانيون بأصابع الاتهام إلى إسرائيل فيما يختص بالهجوم وتوعدوا بالانتقام. ويبدو أنّ وسائل الإعلام الغربية المستقلة تتفق على أنّ الموساد كان وراء هذا الهجوم.
وفي أعقاب الحدث، قال مبعوث إيران لدى الأمم المتحدة إن طهران “تحتفظ بحقها المشروع والأصيل في الدفاع عن أمنها القومي والرد بحزمٍ على أي تهديد أو مخالفة من جانب [إسرائيل] أينما ومتى ترى ذلك ضروريّاً”.
نمط واضح
وفي هذا الإطار، قال إبراهيم كاراتاش، محاضر في العلاقات الدولية في جامعة إستينيا في العاصمة التركية اسطنبول، في تحليل بموقع “منتدى الخليج الدولي”، ومقره واشنطن: “ليست هذه هي المرة الأولى التي يُستهدف فيها العسكريون والمنشآت العسكرية الإيرانية بالتدمير أو التخريب”.
فبدايةً من الهجمات الإلكترونية وانتهاءً بالاغتيالات، عانى النظام الإيراني من سلسلةٍ من النكسات والنكبات الغامضة على مدى نصف العقد الماضي. ووجَّهَ المسؤولون الإيرانيون أصابع الاتهام في المقام الأول إلى إسرائيل في سياق هذه الحوادث، ورغم أن المسؤولين الإسرائيليين لم يؤكدوا تورطهم في هذه الهجمات أو ينفوه، فقد أعربوا علناً عن رضاهم عن النتائج، مما يبدو اعترافاً ضمنياً بالمسؤولية.
وعلى الرغم من أنّ الأعمال السريَّة الإسرائيلية تَرْقَى إلى انتهاكٍ صارخ للسيادة الإيرانية، لم تَردّ الحكومة الإيرانية بعد بأي طريقة ذات مغزى. فبعد كل حالة تخريب أو اغتيال، تدين طهران الجناة وتتعهد بالانتقام، لكن هذا لا يتحقق أبداً على أرض الواقع. ومن هذا المنطلق، نجد أنّ الخطاب والسياسة الإيرانيين متناقضان تماماً. وتحتفظ طهران دائماً بحقها في الرد بالقوة، لكنها لا تمارس هذا الحق في الواقع.
قد يُخيل للمرء أن الحكمة هي التي تُوجِّه سياسات إيران، لكن هذا ليس واقع الحال، يقول الكاتب، إن إمكانات الجيش الإيراني وقدراته – أو قصوره – تمنحنا صورةً واضحة لعجزه عن الإقدام على أي ردة فعل تشي باستعراض العضلات. فسياسة إيران الإقليمية تدور في فلك النظام، وتنظر طهران إلى قوة عدوها قبل قوتها عندما تُقرِّر التصرف.
وبتعبيرٍ آخر، يضيف الكاتب، تتحدد سياستها الخارجية بمقارنة قوة دولة أو جهة فاعلة غير دوليّة بقوتها. فإذا كان بلد ما ضعيفاً واهناً أو كان العدو جهة فاعلة من غير الدول، فقلما تتردد إيران في استخدام القوة العسكرية لتحقيق أهدافها. على سبيل المثال، شنَّ الجيش الإيراني هجمات متكررة ضد حكومة إقليم كردستان في العراق المجاور الذي يحكمه الأكراد، لأن جيش حكومة إقليم كردستان أضعف بكثير من جيش طهران.
وعندما تكون دولة ما قوةً وسطى مثل تركيا، يستحيل الإقدام على مثل هذا التصرف المباشر. وبدلاً من ذلك، تُفضِّل طهران الاعتماد على الجماعات الوكيلة لتحقيق أهداف سياستها الخارجية.
وتابع الكاتب أن الصراع الصريح بين القوات الإيرانية وقوات قوة إقليمية أخرى نادر للغاية. فلم يشتبك الجنود الأتراك والإيرانيون أبداً بشكلٍ مباشر في صراعٍ عسكري.
ومع ذلك، تعرض الجيش التركي لهجوم من قبل وكلاء إيران مئات المرات في كلٍ من العراق وسوريا، كان أحدثها هجوماً على قاعدة بعشيقة التركية الواقعة في شمال العراق، من قِبَل مجموعة ميليشيا داخل قوات الحشد الشعبي المتحالفة مع إيران.
كما دعم الحرس الثوري الإيراني قوات وميليشيات النظام السوري خلال عملياتها ضد الجيش التركي. وتحتفظ طهران بوجود كبير لها في العديد من البلدان الأخرى من خلال وكلائها، مثل حزب الله في لبنان، ورغم نفيها رسميّاً، إلا أنها استعانت بهذه الجماعات لشن حروب فعلية ضد أعدائها.
ومع ذلك، عندما تواجه إيران دولاً تملك أسلحةً أكثر تقدماً لا أمل لها في هزيمتها، تمضي الحكومة بحذرٍ شديد. وفي حين أنّ إيران لا تتردد أبداً في استخدام الخطاب القاسي ضد إسرائيل والغرب، إلا أنها تجنبت محاولة التعدي على تلك القوى لأن النظام يدرك أنه ليس لديه فرصة لتحقيق النصر في ساحة المعركة.
وتدرك إيران أيضاً أنّ سياسة حافة الهاوية مع خصمٍ مسلح نوويّاً ومدعوم من الغرب مثل إسرائيل قد تنتهي بكارثة. وبالتالي، فإن أفضل طريقة يمكن لإيران أن تمضي قدماً بها هي حفظ ماء الوجه قولاً بينما لا تُقدِم إلا على القليل نسبيّاً عسكريّاً لاستفزاز هذه الجهات الفاعلة القوية.
العصي والجزر
ولفت الكاتب النظر إلى أن إيران استخدمت وكلاءها أيضاً باستمرارٍ لبث الإيديولوجية الثورية الشيعية التي لا تزال ركيزة أساسية لسياستها الخارجية.
وفي الواقع، يواصل النظام استخدام القوة لتهديد الدول الأصغر وتوظيف الإيديولوجية لدمج المجتمعات الشيعية في شبكته من القوات الشريكة. وقد استغلت إيران طائفة الهزارة الشيعية في أفغانستان لإنشاء ميليشيا “لواء فاطميون”، ونشرت هذه المجموعة في جميع أنحاء المنطقة للقتال نيابةً عن إيران.
وعندما تجعل علاقات طهران المُترديّة مع المجتمعات الشيعية الأجنبية التعاون مُستبعداً، تتحول إلى القوة. وأذربيجان مثال ساطع لبلدٍ صغير به أغلبية شيعية، لكن علاقاته بإيران لم تكن سليمة قط.
ولذلك، دعمت طهران أرمينيا في حروبها المتعددة مع أذربيجان. وفي الآونة الأخيرة، ظهرت تقارير تفيد بأنّ طهران هددت بمهاجمة أذربيجان إذا تعرضت مصالح طهران في القوقاز للخطر.
وفي أكتوبر (تشرين الأول) 2022، بدأت القوات البرية للحرس الثوري الإيراني تدريبات عسكرية ضخمة على طول نهر أراز على الحدود مع أذربيجان. وخلال المناورات، استخدمت إيران الجسور العائمة لعبور النهر الذي يشكل الحدود الطبيعية بين أذربيجان وإيران.
وعلى الرغم من هذه النزعات والتصرفات، يقول الكاتب، لا ينبغي الاستهانة بالقوة العسكرية الإيرانية. فصناعات الدفاع في إيران الإسلامية حافلة بالمفاجآت. وقد أثبتت صواريخها وطائراتها بدون طيار وأنظمة الأسلحة الأخرى مراراً وتكراراً أنها أكثر فعالية مما يُشاع عنها. وأثبتت الطائرات الانتحارية دون طيار من طراز “شاهد-“136 على وجه الخصوص فعاليتها الشديدة ضد الجيش الأوكراني.
علاوة على ذلك، أوضح الكاتب أن وكلاء إيران المختلفين يمنحونها العديد من الجبهات في جميع أنحاء المنطقة التي يمكن أن تؤثر على الأمن الإقليمي. وفي حالة تعرُّض إيران للهجوم، يجب على الطرف المحارب أن يأخذ في الاعتبار الضرر الذي يمكن أن يُحْدِثه الوكلاء الموالون لإيران، حتى لو حدثَ صراع في مسرح عمليات آخر.